لحرف العربي جمال أخّاذ، وذوق رفيع في شكله ورسمه وزخرفه والتفنن في وضعه على الصفحات الناصعة البياض أو اللوحات التشكيلية، وقد أجادت الأنامل المبدعة في رسمه وخطه، لذا برزت لنا منذ القرون الأولى لمولده أنواع متعددة الأسماء والأشكال عن الخط العربي مما رغب وحث على تكوين دراسات ومناهج وبحوث حول الحرف العربي وكيفية خطه ورسمه وضبط شكله وفق القواعد المخصصة لها.
حيث يعد الخط العربي من أجمل فنون العرب والمسلمين على حدٍ سواء، فالكتابة العربية التي تتميز بحروف طيعة ولينة في تعاملها مع الخطاط هي بالطبع طبيعية في تعاملها مع الشعوب التي اتخذت من أشكال الكتابة العربية منهجاً ثقافياً لها، والذي عزز ذلك اتخاذها الإسلام ديناً تهتدي به.
فالخط العربي كان وما يزال، وسيظل دائماً فياضاً بكل ما يضيء ويفيد ويبهج الحياة ويفتح الآفاق أمام الإنسان والمجتمع، وهو الشاهد على عصور النهضة الإسلاميّة والتقدم الذي واكب هذه النهضة في كل المجالات وعلى مر السنين والعهود.
وهو أحد صيغ الفنون الإسلاميّة الهامّة، أثرى حياة المسلمين بتوكيده الصلة الوثيقة بين العقيدة والتعبير الفني الملتزم، ولما له من ارتباط بفنون التشكيل والزخرفة، مما منحه القدرة على التأثير العميق في فنون الحضارات الأخرى، وهو الوسيلة التي حملت آيات كتاب الله الكريم إلى كل بقاع الأرض والتي جاءت من خلالها إبداعات الآلاف من الخطاطين لآلاف من نسخ المصحف الشريف بدافع التقرب إلى الله والرغبة في نشر كتابه الفصل بين العالمين.
كما يؤكد الخطاط المسلم تفوقه في هذا المجال، لدرجة جعلت كل دارسي الخط العربي يجمعون على أن الفنان المسلم جعل للكلمة وظيفة جمالية مرئية إلى جانب وظيفتها السمعية.
وقد حظي الخط العربي في الإسلام بعناية خاصّة، ولا غرو في ذلك، فهو ترجمان القرآن الكريم ووسيلته التي حفظ بها على مر العصور، حيث حرص الفنان المسلم على مدى أربعة عشر قرناً على تجويد الخط العربي وتحسينه، ووضع أقصى ما يمكن أن يضعه العقل البشري من القواعد والمعايير في سبيل تجويد هذا الفن وأحكامه لتكون بمنـزلة قوانين ونظريات هندسية غاية في الدقة ولا يجوز الزيادة عليها أو النقصان منها، يرجع إليها كل من أراد حذق الكتابة.
وإن جولة واحدة بين مقامات الحروف المتنوعة واللوحات التي تمتاز بخط الثلث هي أجمل من حديقة غناء،كما إن المتعة الروحية التي تتفاعل مع الخطاط أثناء الكتابة لا يوازيها أي متعة على وجه الأرض، وهذه المتعة هي مزيج متآلف بين الإبداع والحركات التي تسطرها القلم من خلال الكم الهائل الذي يحوم حول تلك المائدة المنبسطة لأنواع شتى لحركات الحرف الواحد.
وأستشهد قول أحد العلماء العاملين الذي يقول: " لو علمت الملوك ما نحن فيه من المتعة لجالدونا عليها بالسياط ". لذلك فهي حصيلة مدارس وخبرات نوابغ وعبقريات أشخاص متميزين، تجلّت بين أناملهم جماليات لا حصر لها من الكتابة العربية، كذلك فإنها تبعث في النفس المتعطشة بوادر الاطمئنان والبحث بلهفة وشوق عن مكامن السر الدفين لبوح الحرف والإيحاءات التي تنشدها بصمت وعبقرية وكمال.
ويروي لنا التاريخ أن الخليفة العباسي الواثق بالله أنفذ ابن الترجمان بهدايا إلى ملك الروم فرآهم قد علّقوا على باب الكنيسة كتباً بالعربية فسأل عنها، فقيل له: هذه كتب المأمون بخط أحمد بن أبي خالد، استحسنوا صورتها فعلقوها. هذا ما حكاه الصولي، وقد أورد أيضاً أن سليمان بن وهب كتب كتاباً إلى ملك الروم في أيام الخليفة المعتمد، فقال ملك الروم، ما رأيت للعرب شيئاً أحسن من هذا الشكل، وما أحسدهم على شيء حسدي على جمال حروفهم، وملك الروم لا يقرأ الخط العربي وإنما راقه باعتداله وهندسته، ويقول الخليفة المأمون: لو فاخرتنا الملوك الأعاجم بأمثالها لفاخرناها بما لنا من أنواع الخط، يقرأ في كل مكان، ويترجم بكل لسان، ويوجد في كل زمان.
كما إن الخط العربي يرسم بأي شكل هندسي وبأية صورة زخرفيه فنية، فهو طوع يد الفنان الماهر والمبتكر والنابغ المبدع، ولذلك نجد له منذ بدء الإسلام إلى اليوم أكثر من مائة نوع، وليس له حد يقف عنده، مع العلم أنه لا يطرأ على معالمه الأصلية أي تغيير أو تبديل مهما تشعبت أقسامه وتعددت أقلامه.
والخطاط الناجح هو ذلك الذي يمتلك تلك الشفافية العذبة للخوض في ميدان هذا الفن الرفيع، فالموهبة والإيمان والصبر والتواضع والخلق الحسن، ويضاف إليها التدريب المستمر والعناية الدقيقة بشكل الحرف وطريقة أدائه السليمة، فمن يمتلك تلك المحاسن يتكوّن في شخصه الخطاط الناجح والمبدع الذي يعطي رصيداً جديداً لهذا الفن الخالد.
وسنتطرق في هذا السياق إلى قلم الثلث الذي يعتبر بحق جوهرة الأقلام العربية.
أم الخطوط
يعتبر خط الثلث، أو قلم الثلث، من الخطوط الكلاسيكية،وهو سيد الخطوط عند جميع الخطاطين لصعوبة تعلمه واحتياجه إلى مدة طويلة وهو من أروع الخطوط العربية جمالاً وكمالاً، و أكثرها صعوبة من الخطوط الأخرى من حيث القواعد والموازين والحبكة، وعندما يقال عن خطاط معيّن إنه مجيدٌ لخط الثلث، فمعنى ذلك أنه قد تجاوز ما لا يقل عن عشرين عاماً في تعلم قواعد وأصول الخط العربي.
وفيه تتجلى عبقرية الخطاط في حُسن تطبيق القاعدة مع جمال التركيب، وقد استعمل هذا الخط بكثرة للكتابة على جدران المساجد، وفي التكوينات الخطية المعقدة وذلك بسبب مرونته، وإمكانية سكب حروفه في كل الاتجاهات، حيث تبدو الكتابة كأنها سبيكة واحدة يملؤها التشكيل لترتيب الحروف بغية إيجاد أنغام مرئية تتخللها فراغات صامتة أو ممتلئة بزخارف دقيقة، فتراه يتحرك وهو جامد، فيجعل من اللوحة ضرباً من الإعجاز، كما أن اتصالات الحروف ببعضها فيها شيء من القوة تتناسب مع عظمة ومرونة هذا النوع القوي من الخط.
وتختلف أساليب الخطاطين في كتابة هذا النوع، كما يختلفون في طريقة التشكيل والتجميل، ويمكن كتابة هذا النوع بطريقة التركيب الخفيف أو بالطريقة المرسلة، ويمكن أيضاً كتابة هذا النوع بطريقة التركيب الثقيل أو إدخال الكتابة في أشكال هندسية وتكوينات زخرفيه، ونظراً لأنه يأخذ وقتاً طويلاً في الكتابة، فهو يقل في كتابة المصاحف وتقتصر كتابته على العناوين وبعض الآيات والجمل.
مميزات خط الثلث
إذا لم يكتب وفق شروط القاعدة لا يكون جميلاً وباهراً.
يمتاز خط الثلث عن غيره من الخطوط في التركيب، فالجملة الواحدة يمكن أن تكتب بعدّة أشكال باختلاف تركيب الحروف.
لكل خطاط طريقته الخاصّة في الكتابة تميّزه به عمّن سواه من الخطاطين.
الاهتمام الكامل برسم أي حرف من حروف خط الثلث، وإن أي إهمال بسيط يشوّه جمال اللوحة.
الحركات الإعرابية والتشكيلات الخاصّة بخط الثلث تُكتب بقلم آخر عرضه ربع عرض القلم الأصلي عدا البعض منها فإنها ترسم بعرض القلم الأصلي، وعلى الخطاط أن يتقن كيفية توزيع هذه الحركات والتشكيلات توزيعاً فنيّاً سليماً في اللوحة.
تمتاز قاعدة خط الثلث بأنها ثابتة، إلا أن هناك فرقاً بسيطاً في بعض الحروف لدى المدرستين البغدادية والتركيّة.
لابد من أستاذ ماهر يُعتمد عليه في خط الثلث للتعلم منه وتقليده واستشارته في الخط.
ومن خلال سير الخطاطين العظام نرى أن الخطاط يعتمد في تدريبه على هذا النوع إلى أكثر من خطاط، لتزداد في خبرته العملية تجارب عديدة وابتكارات متنوعة ليسلك بعد ذلك النهج الذي يلائمه ويتفاعل معه.
وسمي بخط الثلث، لأنه يكتب بقلم يبرى رأسه بعرض يساوي ثلث عرض القلم الذي يكتب به الخط الجليل، كما أنه أصغر أيضاً من الطومار، ويعتبر أم الخطوط العربية بجماله وسيطرته على باقي أنواع الخطوط، فقد كان المنهل الأساسي لأنواع كثيرة من الخطوط العربية، ولا يعتبر الإنسان خطاطاً إلا إذا أتقن قواعده.
أبو الثلث
اخترعه الخطاط قطبة المحرر عام 136هـ 753م أول خطاط في عهد بني أُميّة واستخرج أربعة خطوط من الأقلام الكوفية الموجودة وقد اشتق بعضها من بعضها الآخر وهو الكاتب الوحيد للخط العربي على هذه الأرض. وتجمع المصادر على اعتبار الخطاط ابن مقلة هو أول من وضع قواعده، وأجاد فيه، وكان له الفضل الكبير في إيجاد الصيغة الفنية له، وبعد ابن مقلة جاء الخطاط ابن البوّاب، فتفنن فيه واخترع له أنواع جميلة.
وبعده تسابق الخطاطون في إجادة رسم حروفه وتكويناته، حتى أصبح في أجمل شكل وأبهى حلة. وأصبحت حروفه الموزونة بالنقط موضع اهتمام الدّارسين والباحثين في مختلف أقطار العالم العربي والإسلامي.
ويقول صاحب كتاب (إعانة المنشئ) عن خط الثلث: إنه أول خط ظهر منبثقاً عن الخط الكوفي منذ بدء نشأة الأقلام المستعملة في أواخر خلافة بني أمية وأوائل خلافة بني العباس.
وقال صاحب (الأبحاث الجميلة في شرح الفضيلة): إن الأقلام الموجودة الآن مستنبطة كلها من الخط الكوفي. وفي كتاب (صفوة الصفوة) ما معناه أن التابعي الجليل، الحسن البصري رضي الله عنه الذي عاش ثمانية وثمانين عاماً هو الذي قلّب القلم الكوفي إلى النسخ والثلث. وقد جاء بهذه الرواية المهندس ناجي زين الدين المصرف في كتابه (مصور الخط العربي) ص 308 (1980م طبعة بغداد).
وقد اعتمد هذا الرأي بدافع مكانة هذا الرجل الاجتماعية والدينية فقد ذاع صيته لمتانة خُلُقه وعلوّ مكانته، وكان ورعاً فصيحاً، أُعجب به الناس فنسبوا له هذا الحدث الهام.
وللكتابة بخط الثلث يقول الأستاذ محمد عبد القادر، المدرس بمدرسة تحسين الخطوط العربية في القاهرة بخصوص الكتابة: نقطع منقار القلم بانحراف يساوي ثلث المنقار فنحصل على قلم ملائم لخطي الثلث العادي والثلث الجلي.
أنواع عديدة
ينقسم خط الثلث إلى أنواع عديدة حسب شكلها وطريقة الإبداع فيها.وأنواعه هي:خط الثلث الجلي، خط الثلث المحبوك،الخط الثلثي الزخرفي، الخط الثلثي المتأثر بالرسم، خط الثلث المختزل، الخط الثلثي المتناظر، فالخط العربي يمتلك من الخصائص الجمالية الكثير ويتميّز بآفاق جمالية واسعة تعطي تكوينات فنية لا حدود لها فالحرف العربي تراث متجدد أينما يقف يسمو وأينما تحرك فهو يعطي للعين موسيقى تسحره إلى شواطئ الإبداع والخيال الخصيب.